كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قال تعالى: {وما ينبغي له} أي: وما يصح له الشعر ولا يسهل له على ما أختبرتم من طبعه نحوًا من أربعين سنة؛ لأن منصبه أجل وهمته أعلى من أن يكون مداحًا أو عيابًا أو أن يتقيد بما قد يجر نقيصة في المعنى وجبلته منافية لذلك غاية المنافاة بحيث لو أراد نظم شعر لم يتأت له، كما جعلناه أميًا لا يكتب ولا يحسب لتكون الحجة أثبت والشبهة أدحض، وما كان يتزن له بيت شعر حتى إذا تمثل ببيت شعر جرى على لسانه منكسرًا روى الحسن: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتمثل بهذا البيت:
كفى بالشيب والإسلام للمرء ناهيًا

فقال أبو بكر رضي الله عنه: إنما قال الشاعر:
كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيًا

فقال عمر رضي الله عنه: أشهد أنك رسول الله يقول الله عز وجل {وما علمناه الشعر وما ينبغي له} وعن ابن شريح قال: قلت لعائشة رضي الله عنها: أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتمثل بشيء من الشعر قالت: كان يتمثل من شعر عبد الله بن رواحة قالت: وربما قال:
ويأتيك بالأخبار من لم تزود

وفي رواية قالت: كان الشعر أبغض الحديث إليه قالت: ولم يتمثل بشيء من الشعر إلا ببيت أخي بين قيس طرفة العبدي:
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلًا ** ويأتيك بالأخبار من لم تزود

فجعل يقول: ويأتيك من لم تزود بالأخبار فقال أبو بكر: ليس هكذا يا رسول الله فقال: «إني لست بشاعر ولا ينبغي لي» وقيل: معناه ما كان متأتيًا له، وأما قوله صلى الله عليه وسلم كما رواه مسلم والبخاري:
«أنا النبي لا كذب ** أنا ابن عبد المطلب»
وقوله كما رواه الشيخان أيضًا:
«هل أنت إلا إصبع دميت ** وفي سبيل الله ما لقيت»
فاتفاقي من غير تكلف وقصد منه إلى ذلك وقد يقع مثله كثيرًا في تضاعيف المنثورات على أن الخليل ما عد المشطور من الرجز شعرًا، هذا وقد روى أنه حرك الباءين في قوله: «أنا النبي لا كذب» وكسر التاء الأولى بلا إشباع وسكن الثانية من قوله هل أنت إلا إصبع إلخ.
وقيل: الضمير للقرآن أي: وما يصح أن يكون القرآن شعرًا، فإن قيل: لم خص الشعر بنفي التعليم مع أن الكفار كانوا ينسبون إلى النبي صلى الله عليه وسلم أشياء من جملتها السحر والكهانة ولم يقل: وما علمناه السحر وما علمناه الكهانة؟
أجيب: بأن الكهانة إنما كانوا ينسبون النبي صلى الله عليه وسلم إليها عندما كان يخبر عن الغيوب وتكون كما يقول وأما السحر فكانوا ينسبونه إليه عندما كان يفعل ما لا يقدر عليه الغير كشق القمر وتكليم الجذع والحجر وغير ذلك، وأما الشعر فكانوا ينسبونه إليه عندما كان يتلو القرآن عليهم لكنه صلى الله عليه وسلم ما كان يتحدى إلا بالقرآن كما قال تعالى: {إن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله} إلى غير ذلك ولم يقل: إن كنتم في شك من رسالتي فأخبروا بالغيوب أو أشبعوا الخلق الكثير بالشيء اليسير. فلما كان تحديه صلى الله عليه وسلم بالكلام وكانوا ينسبونه إلى الشعر عند الكلام خص الشعر بنفي التعليم.
وما نفى أن يكون ما أتى به من جنس الشعر قال تعالى: {إن} أي: ما {هو} أي: هذا الذي آتاكم به {إلا ذكر} أي: شرف وموعظة {وقرآن} أي: جامع للحكم كلها دنيا وأخرى يتلى في المحاريب ويكرر في المتعبدات وينال بتلاوته والعمل به فوز الدارين والنظر إلى وجه الله العظيم {مبين} أي: ظاهر أنه ليس من كلام البشر لما فيه من الإعجاز {قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين إن هو إلا ذكر للعالمين} كلهم ذكيهم وغبيهم بخلاف الشعر فإنه مع نزوله عن بلاغته جدًا إنما ذكر للأذكياء جدًا وقوله تعالى: {لينذر} ضميره للنبي صلى الله عليه وسلم ويدل له قراءة نافع وابن عامر بالتاء الفوقية على الخطاب وقيل: للقرآن ويدل له قراءة الباقين بالياء التحتية على الغيبة، واختلف في قوله تعالى: {من كان حيًا} على قولين: أحدهما: أن المراد به المؤمن؛ لأنه حي القلب والكافر كالميت في أنه لا يتدبر ولا يتفكر قال تعالى: {أو من كان ميتًا فأحييناه}.
والثاني: المراد به العاقل فهمًا فيعقل ما يخاطب به فإن الغافل كالميت {ويحق} أي: يجب ويثبت {القول} أي: العذاب {على الكافرين} أي: الغريقين في الكفر فإنهم أموات في الحقيقة وإن رأيتهم أحياء، ويمكن أن تكون هذه الآية من الاحتباك حذف الإيمان أولًا لما دل عليه من ضده ثانيًا، وحذف الموت ثانيًا لما دل عليه من ضده أولًا، وأفرد الضمير في الأول على اللفظ إشارة إلى قلة السعداء، وجمع في الثاني على المعنى إعلامًا بكثرة الأشقياء.
{أو لم يروا} أي: يعلموا علمًا هو كالرؤية، والاستفهام للتقرير والواو الداخلة عليها للعطف {أنا خلقنا لهم} أي: في جملة الناس {مما عملت أيدينا} أي: مما تولينا إحداثه ولم يقدر على إحداثه غيرنا، وذكر الأيدي وإسناد العمل إليها استعارة تفيد المبالغة في الاختصاص والتفرد في الإحداث، كما يقول القائل: عملت هذا بيدي إذا تفرد به ولم يشاركه فيه أحد {أنعامًا} على علم منا بقواها ومقاديرها ومنافعها وطبائعها وغير ذلك من أمورها، وإنما خص الأنعام بالذكر وإن كانت الأشياء كلها من خلقه وإيجاده، لأن الأنعام أكثر أموال العرب والنفع بها أعم {فهم لها مالكون} أي: خلقناها لأجلهم فملكناهم إياها يتصرفون فيها تصرف الملاك أو فهم لها ضابطون قاهرون ومنه قول بعضهم:
أصبحت لا أملك السلاح ولا ** أملك رأس البعير إن نفرا

والذئب أخشاه إن مررت به ** وحدي وأخشى الرياح والمطرا

والشاهد في قوله: ولا أملك رأس البعير أي: لا أضبطه والمعنى: لم نخلق الأنعام وحشية نافرة من بني آدم لا يقدرون على ضبطها بل خلقناها مذللة كما قال تعالى: {وذللناها لهم} أي: يسرنا قيادها ولو شئنا جعلناها وحشية كما جعلنا أصغر منها وأضعف، فمن قدر على تذليل الأشياء الصعبة جدًا لغيره قادر على تطويع الأشياء لنفسه ثم سبب عن ذلك قوله تعالى: {فمنها ركوبهم} أي: ما يركبون وهي الإبل؛ لأنها أعظم مركوباتهم لعموم منافعها في ذلك وكثرتها {ومنها يأكلون} أي: ما يأكلون لحمه.
ولما أشار إلى عظمة نفع الركوب والأكل بتقديم الجار وكانت منافعها لغير ذلك كثيرة قال تعالى: {ولهم فيها منافع} أي: من أصوافها وأوبارها وأشعارها وجلودها ونسلها وغير ذلك {ومشارب} أي: من ألبانها جمع مشرب بالفتح، وخص الشرب من عموم المنافع بعموم نفعه وجمعه لاختلاف طعوم ألبان الأنواع الثلاثة، ولما كانت هذه الأشياء من العظمة بمكان لو فقدها الإنسان لتكدرت معيشته تسبب عنها استئناف الإنكار عليهم في تخلفهم عن طاعته بقوله تعالى: {أفلا يشكرون} أي: المنعم عليهم بها فيؤمنون. ولما ذكرهم تعالى نعمه وحذرهم نقمه عجب منهم في سفول نظرهم وقبح أثرهم بقوله تعالى موبخًا لهم: {واتخذوا من دون} أي: غير {الله} الذي له جميع صفات الكمال والعظمة {آلهة} أي: أصنامًا يعبدونها بعدما رأوا منه تعالى تلك القدرة الباهرة والنعم المتظاهرة وعلموا أنه المنفرد بها {لعلهم ينصرون} أي: رجاء أن ينصروهم فيما أحزنهم من الأمور والأمر بالعكس كما قال تعالى: {لا يستطيعون} أي: الآلهة المتخذة {نصرهم} أي: العابدين {وهم} أي: العابدون {لهم} أي: للآلهة {جند محضرون} أي: الكفار جند الأصنام فيغضبون لها ويحضرونها في الدنيا وهي لا تسوق لهم خيرًا ولا تستطيع لهم نصرًا، وقيل: هذا في الآخرة يؤتى بكل معبود من دون الله تعالى ومعه أتباعه الذين عبدوه كأنهم جنده يحضرون في النار وهذا كقوله تعالى: {إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم} وقوله تعالى: {احشروا الذين ظلموا وأزواجهم وما كانوا يعبدون من دون الله فاهدوهم إلى صراط الجحيم} ولما بين تعالى ما تبين من قدرته الظاهرة الباهرة ووهن أمرهم في الدنيا والآخرة ذكر ما يسلى نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى: {فلا يحزنك قولهم} أي: في تكذيبك كقولهم: {لست مرسلًا}.
{إنا نعلم ما} أي كل ما {يسرون} أي: في ضمائرهم من التكذيب وغيره {وما يعلنون} أي: يظهرونه بألسنتهم من الأذى وغيره من عبادة الأصنام فنجازيهم عليه.
ولما ذكر تعالى دليلًا على عظم قدرته ووجوب عبادته بقوله تعالى: {أو لم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعامًا} ذكر دليلًا من الأنفس أبين من الأول بقوله تعالى: {أولم ير} أي: يعلم {الإنسان} علمًا هو في ظهوره كالمحسوس بالبصر {أنا خلقناه} أي: بما لنا من العظمة {من نطفة} أي: شيء حقير يسير من ماء لا انتفاع به بعد إبداعنا إياه من تراب وأنه من لحم وعظام {فإذا هو} أي: فتسبب عن خلقنا له من ذلك المفاجأة لحالة هي أبعد شيء من حالة النطفة وهي أنه {خصيم} أي: بليغ الخصومة {مبين} أي: في غاية البيان عما يريده حتى إنه ليجادل من أعطاه العقل والقدرة في قدرته وأنشد الأستاذ القشيري في ذلك:
أعلمه الرماية كل يوم ** فلما اشتد ساعده رماني

وكم علمته علم القوافي ** فلما قال قافية هجاني

وفي هذا تسلية ثانية بتهوين ما يقولونه بالنسبة إلى إنكارهم الحشر وفيه تقبيح بليغ لإنكاره، حيث تعجب منه وجعله إفراطًا في الخصومة بينًا ومنافاته لجحود القدرة على ما هو أهون مما علمه في بدء خلقه ومقابلة النعمة التي لا مزيد عليها وهي خلقه من أخس شيء وأمهنه شريفًا مكرمًا بالعقوق والتكذيب.
{وضرب} أي: هذا الإنسان {لنا} أي: على ما يعلم من عظمتنا {مثلًا} أي: أمرًا عجيبًا وهو نفي القدرة على إحياء الموتى، روي: أن أبي بن خلف الجمحي وهو الذي قتله النبي صلى الله عليه وسلم بأحد مبارزة، أتى النبي صلى الله عليه وسلم بعظم بال يفتته بيده فقال: أترى الله يحيي هذا بعدما رم؟ فقال صلى الله عليه وسلم «نعم ويبعثك ويدخلك النار» فنزلت. وقيل: هو العاصي بن وائل قاله الجلال المحلي وأكثر المفسرين على الأول{ونسي} أي: هذا الذي تصدى على مهانة أصله لمخاصمة الجبار {خلقه} أي: بدء أمره من المني وهو أغرب من مثله، والنسيان هنا يحتمل أن يكون بمعنى الذهول وأن يكون بمعنى الترك، ثم استأنف الإخبار عن هذا المثل بأن {قال} أي: على طريق الإنكار {من يحيي العظام وهي رميم} أي: صارت ترابًا تمرّ مع الرياح ورميم قال البيضاوي: بمعنى فاعل من رم الشيء صار اسمًا بالغلبة ولذلك لم يؤنث، أو اسم مفعول من رممته، وفيه دليل على أن العظم ذو حياة فيؤثر فيه الموت كسائر الأعضاء ا. ه. قال البغوي: ولم يقل: رميمة؛ لأنه معدول عن فاعله فكل ما كان معدولًا عن وجهه ووزنه كان مصروفًا عن إعرابه كقوله تعالى: {وما كانت أمك بغيا} أسقط الهاء؛ لأنها مصروفة عن باغية.
تنبيه:
هذه الآية وما بعدها إشارة إلى بيان الحشر؛ لأن المنكرين للحشر منهم من لم يذكر فيه دليلًا ولا شبهة بل اكتفى بمجرد الاستبعاد وهم الأكثرون {أءذا ضللنا في الأرض أئنا لفي خلق جديد} {أءذا متنا وكنا ترابًا وعظامًا أئنا لمبعوثون} {من يحيي العظام وهي رميم} قالوا: ذلك على طريق الاستبعاد فأبطل الله تعلى استبعادهم بقوله تعالى: {ونسي خلقه} أي: نسي أنا خلقناه من تراب ومن نطفة متشابهة الأجزاء ثم جعلنا لهم من النواصي إلى الأقدام أعضاء مختلفة الصورة، وما اكتفينا بذلك حتى أودعناهم ما ليس من قبيل هذه الأجرام وهو النطق والعقل اللذان بهما استحقوا الإكرام، فإن كانوا يقنعون بمجرد الاستبعاد فهلا يستبعدون خلق الناطق العاقل من نطفة مذرة لم تكن محلًا للحياة أصلًا، ويستبعدون إعادة النطق والعقل إلى محل كانا فيه واختاروا العظم بالذكر؛ لأنه أبعد عن الحياة لعدم الإحساس فيه ووصفوه بما يقوى جانب الاستبعاد من البلاء والتفتت.
والله تعالى دفع استبعادهم من جهة ما في العبد من القدرة والعلم فقال: {وضرب لنا مثلًا} أي: جعل قدرتنا كقدرتهم ونسي خلقه العجيب وبدأه الغريب، ومنهم من ذكر شبهة وإن كان في آخرها يعود إلى مجرد الاستبعاد وهي على وجهين: الأول: أنه بعد العدم لم يبق شيئًا فكيف الحكم على العدم بالوجود؟ فأجاب تعالى عن هذه الشبهة بأن قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم {قل} أي: لهؤلاء البعداء البغضاء {يحييها} أي: بعد أن أنشأها أول مرة {الذي أنشأها} أي: من العدم ثم أحياها {أول مرة} فكما خلق الإنسان ولم يكن شيئًا مذكورًا كذلك يعيده إن لم يبق شيئًا مذكورًا.
الوجه الثاني: أن من تفرقت أجزاؤه في مشارق العالم ومغاربه وصار بعضها في أبدان السباع وبعضها في حواصل الطيور وبعضها في جدران الربوع كيف تجتمع.
وأبعد من هذا لو أكل إنسان إنسانًا وصار أجزاء المأكول في أجزاء الآكل فإن أعيدت أجزاء الآكل فلا يبقى للمأكول أجزاء تنخلق منها أعضاؤه وإما أن تعاد إلى بدن المأكول فلا يبقى للآكل أجزاء أصلية وأجزاء فضلية وفي المأكول كذلك، فإذا أكل إنسان إنسانًا صار الأصلي من أجزاء المأكول فضليًا من أجزاء الآكل والأجزاء الأصلية للآكل هي ما كان قبل الأكل فأجاب الله تعالى عن هذه الشبهة بقوله: {وهو بكل خلق} أي: مخلوق {عليم} أي: يجمع الأصل من الفضل فيجمع الأجزاء الأصلية للآكل ويجمع الأجزاء الأصلية للمأكول وينفخ فيه روحه وكذلك يجمع أجزاءه المتفرقة في البقاع المتبددة بحكمته وقدرته.
ثم إنه تعالى عاد إلى تقرير ما تقدم من دفع استبعادهم وإبطال إنكارهم بقوله تعالى: {الذي جعل لكم} أي: في جملة الناس {من الشجر الأخضر} أي: الذي تشاهدون فيه الماء {نارًا} قال ابن عباس: هما شجرتان يقال لإحداهما: المرخ والأخرى: العفار، الأول: بفتح الميم والخاء المعجمة شجر سريع الوري أي: القدح، والثاني: بفتح المهملة وفاء وراء بعد ألف الزند فمن أراد منهما النار قطع منهما غصنين مثل السواكين وهما أخضران يقطران الماء فيسحق المرخ وهو ذكر على العفار وهو أنثى فيخرج منهما النار بإذن الله تعالى وتقول العرب: في كل شجر نار واستمجد المرخ والعفار، وقال الحكماء: في كل شجر نار إلا العناب {فإذا أنتم} أي: فتسبب عن ذلك مفاجأتكم لأنه {منه} أي: من الشجر الموصوف بالخضرة {توقدون} أي: توجدون الإيقاد ويتجدد لكم ذلك مرة بعد أخرى وهذا أدل على القدرة على البعث فإنه جمع فيه بين الماء والنار والخشب فلا الماء يطفئ النار ولا النار تحرق الخشب.
ثم ذكر ما هو أعظم من خلق الإنسان فقال تعالى: {أوليس الذي خلق} أي: أوجد من العدم {السموات والأرض} أي: على كبرهما وعظم ما فيهما من المنافع والمصانع والعجائب والبدائع، وأثبت الجار تحقيقًا للأمر وتأكيدًا للتقرير فقال تعالى: {بقادر على أن يخلق مثلهم} أي: مثل هؤلاء الأناسي في الصغر أي: يعيدهم بأعيانهم، وقيل: الضمير يعود على السموات والأرض لتضمنهم من يعقل والأول أظهر؛ لأنهم المخاطبون وقوله تعالى: {بلى} جواب ليس وإن دخل عليها الاستفهام المصير لها إيجابًا أي: هو قادر على ذلك أجاب نفسه تعالى: {وهو} مع ذلك أي: مع كونه عالمًا بالخلق {الخلاق} أي: الكثير الخلق {العليم} أي: البالغ في العلم الذي هو منشأ القدرة فلا يخفى عليه كلي ولا جزئي في ماض ولا حال ولا مستقبل شاهد أو غائب.
ولما تقرر ذلك أنتج قوله تعالى مؤكدًا لأجل إنكارهم القدرة على البعث: {إنما أمره} أي: شأنه ووصفه {إذا أراد شيئًا} أي: خلق شيء من جوهر أو عرض أي شيء كان {أن يقول له كن} أي: أن يريده {فيكون} أي: يحدث وهو تمثيل لتأثير قدرته في مراده بأمر المطاع للمطيع في حصول المأمور من غير امتناع وتوقف وافتقار إلى مزاولة عمل واستعمال آلة قطعًا لمادة الشبهة وهو قياس قدرة الله تعالى على قدرة الخلق، وقرأ ابن عامر والكسائي بنصب النون عطفًا على يقول، والباقون بالرفع أي: فهو يكون.
ولما كان ذلك تسبب عنه المبادرة إلى تنزيهه تعالى عما ضربوه له من الأمثال فلذلك قال: {فسبحان} أي: تنزه عن كل شائبة نقص تنزهًا لا يبلغ أفهامكم كنهه وعدل عن الضمير إلى وصف يدل على غاية العظمة فقال: {الذي بيده} أي: قدرته وتصرفه خاصة لا بيد غيره {ملكوت كل شيء} أي: ملكه التام وملكه ظاهرًا وباطنًا.
ولما كان التقدير فمنه تبدءون عطف عليه قوله تعالى: {وإليه} أي: لا إلى غيره {ترجعون} أي: معنى في جميع أموركم وحسًّا بالبعث لينصف بينكم فيدخل بعضًا النار وبعضًا الجنة، وعن ابن عباس: كنت لا أعلم ما روي في فضل يس كيف خصت به فإذا به لهذه الآية.
وما رواه البيضاوي عنه صلى الله عليه وسلم «إن لكل شيء قلبًا وقلب القرآن يس»، و«أيما مسلم قرئ عنده إذا نزل به ملك الموت سورة يس نزل بكل حرف منها عشرة أملاك يقومون بين يديه صفوفًا يصلون عليه ويستغفرون له ويشهدون قبض روحه وغسله ويتبعون جنازته ويصلون عليه ويشهدون دفنه»، و«أيما مسلم قرأ يس وهو في سكرات الموت لم يقبض ملك الموت روحه حتى يجيئه رضوان بشربة من الجنة فيشربها وهو على فراشه فيقبض روحه وهو ريان ويمكث في قبره وهو ريان ولا يحتاج إلى حوض من حياض الأنبياء حتى يدخل الجنة وهو ريان» حديث موضوع.
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة يس في ليلة أصبح مغفورًا له» وعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من دخل المقابر فقرأ سورة يس خفف عنهم يومئذ وكان له بعدد من فيها حسنات». وعن يحيى بن أبي كثير قال: بلغنا أن من قرأ يس حين يصبح لم يزل في فرح حتى يمسي ومن قرأها حين يمسي لم يزل في فرح حتى يصبح. اهـ.